بسم الله الرحمن الرحيم
إِنّ الْحَمْدَ ِللهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ،
وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَسَيّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ
يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ.
أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، اَلَّذِيْ فَرَضَ عَلَيْنَا اْلإِحْسَانَ
إِلَى الْوَالِدَيْنَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ، اَلَّذِيْ
بَيَّنَ لَنَا أَنَّ بِرَّهُمَا سَبَبٌ لِسَعَادَةِ الدَّارَيْنِ.
اَللَّهُمَّ صَلِّ عَلىَ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلىَ آلِهِ وَصَحْبِهِ،
وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّيْنِ. أَمَّا بَعْدُ.
رَئِيْسَ الْجِلْسَةِ الْمُحْتَرَمْ، صُفُوْفَ التَّحْكِيْمِ
الْمُقْسِطِيْنَ، أَصْدِقَائِيْ وَصَدِيْقَاتِي الْأَعِزَّاءِ، سِيَادَةَ
الضُّيُوْفِ الْكِرَامِ،
أُحَيِّيْكُمْ بِتَحِيَّةِ اْلإِسْلَامِ، اَلسَّلاَمُ عَلَيْكُمْ ورحمة
الله وبركاته.
أَقِفُ أَمَامَكُمْ هَهُنَا، لِأُلْقِيَ الْمُحَاضَرَةَ تَحْتَ عُنْوَانِ :
اَلْجَنَّةُ تَحْتَ أَقْدَامِ الْأُمَّهَاتِ.
إِخْوَتِيَ وَأَخَوَاتِي الْأَجِلاَّء،ُ
وَقَبْلَ أَنْ أُفَصِّلَ لَكُمْ نِقَاطًا مُهِمَّةً، أَوَدُّ أَنْ أُبَيِّنَ لَكُمْ مَعَانِي الْكَلِمَاتِ
لِلْعُنْوَانِ الْمُحَاضَرَةِ. فَكَلِمَةُ الْجَنَّةِ تَعْنِي الدَّارَ الَّتِيْ
أَعَدَّهَا اللهُ جَزَاءً لِلْمُؤْمِنِيْنَ فِي اْلآخِرَةِ. أَمَّا كَلِمَةُ تَحْتَ،
فَهِيَ ظَرْفُ الْمَكَانِ الَّتِيْ تُسْتَعْمَلُ وِعَاءً لِلْحَدَثِ. وَيُقْصَدُ بِأَقْدَامٍ،
اَلرِّجْلُ، وَهِيَ جَمْعُ قَدَمٍ. وَأَخِيْرًا كَلِمَةُ اْلأُمَّهَاتِ، فَهِيَ
جَمْعٌ لِلْأُمِّ. فَهِيَ، بِالنِّسْبَةِ لِهَذِهِ الْخِطَابَةِ تَعْنِيْ إِنْسَانًا
أُنْثَى الَّتِيْ أَنْجَبَتْ طِفْلَهَا.
عُنْوَانُنَا الْيَوْمَ مَأْخُوْذٌ مِنَ الْحَدِيْثِ الَّذِيْ رُوِيَ بِطُرُقٍ
وَأَسَانِيْدَ ضَعِيْفَةٍ، وَحَكَمَ عَلَيْهِ
الْعُلَمَاءُ وَمِنْهُمُ الْمُنَاوِيْ فِي ْكِتَابِهِ فَيْضُ الْقَدِيْرِ، بِأَنَّهُ
حَدِيْثٌ مُنْكَرٌ. وَلَكِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ، إِنَّ الْحَدِيْثَ وَإِنْ كَانَ ضَعِيْفًا بِلَفْظِهِ، إِلَّا أَنَّهُ وَرَدَ حَدِيْثٌ صَحِيْحٌ
بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ حَدِيْثٌ قَالَ فِيْهِ حَبِيْبُنَا رَسُوْلُ اللهُ صَلىَّ
الله عليه وسلم لِمُعَاوِيَةَ بْنِ جَاهِمَةِ اَلَّذِي اسْتَشَارَهُ لِمُشَارَكَةِ
اْلغَزْوِ، فَأَرْشَدَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَائِلاً :
هَذَا الْحَدِيْثُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيْ فِي «اْلْمُعْجَمِ الْكَبِيْرِ»
بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، وَأَقَرَّهُ
الْمُنْذِرِيْ.
وَمِنْ هُنَا نَقُوْلُ أَنَّ الْبَيَانَ الْعَامَّ مِنْ هَذِهِ
الْمُحَاضرةِ، هُوَ أَنَّ بِرَّ الْأُمَّهَاتِ فِي اْلأُمُوْرِ الْمَأْذُوْنَةِ شَرْعًا،
يُسَهِّلُ لِلْأَبْنَاءِ طَرِيْقًا لِدُخُوْلِ جَنَّةِ دَار ِالسَّلاَمْ.
زُمَلاَئِيْ وَزَمِيْلَاتِي الْكِرَامُ،
فَمِنْ تَعَالِيْمِ الْإِسْلاَمِ الَّتِيْ أَوْحَى اللهُ لِجَمِيْعِ أَنْبِيَائِهِ
وَرُسُلِهِ، وَجَعَلَهَا مِنَ الْفُرُوْضِ الْمُتَوَارِثَةِ مِنَ اْلأَجْيَالِ تِلْوَ
اَلأَجْيَالِ، بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. ذَلِكَ لِأَنَّ اْلأُمَّهَاتِ وَاْلآبَاءَ قَدْ
ضَحُّوْا كَثِيْرًا لِأَجْلِ أَبْنَائِهِمْ، وَقَدَّمُوْا كُلَّ شَيْئٍ لِتَحْقِيْقِ
سَعَادَةِ الْأَوْلَادِ. وَلِأَجْلِ عَظِيْمِ خَيْرِهِمْ وَطُوْلِ تَضْحِيَتِهِمْ
تُجَاهَ اْلأَوْلَادِ فِيْ مُخْتَلَفِ الْمَجَالِ، جَعَلَ اللهُ طَاعَتَهُمْ وَبِرَّهُمْ
فَرِيْضَةً كَفَرِيْضَةِ عِبَادَةِ اللهِ وَحْدَهُ، وَوَضَعَ اْلأَمْرَ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنَ
مُبَاشَرَةً بَعْدَ الْأَمْرِ بِتَوْحِيْدِ عِبَادَتِهِ فِي اْلآيَةِ الْكَرِيْمَةِ،
حَيْثُ يَقُوْلُ جَلَّ وَعَلاَ فِيْ مُحْكَمِ كِتَابِهِ :
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَبِالْوَالِدَيْنِ
إِحْسَانًا، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَ،ا أَوْ كِلَاهُمَا
فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ، وَلَا تَنْهَرْهُمَا، وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا
كَرِيمًا
سُوْرَةُ الْإِسْرَاءِ، اَلْآيَةُ الثَّالِثَةُ وَالْعِشْرُوْنَ.
تَصَوَّرُوْا أَيُّهَا اْلإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ، كَمْ يَتَأَذَّىْ
وَالِدُوْنَا فِيْ سَبِيْلِ حِمَايَتِنَا مِنَ الْمَكْرُوْهَاتِ! وَكَمْ يَبْذُلُ
اْلآبَاءُ وَاْلأُمَّهَاتُ جُهُوْدَهُمْ فِيْ تَحَمُّلِ مَشَقَّاتِ اْلأَوْلَادِ مُنْذُ
وِلَادَتِـهِمْ! وَاسْتَمَرَّ هَذِهُ الْجُهُوْدُ وَالْمُكَافَحَةُ طَوِيْلًا، حَتَّى
وَصَلَ الْأَبْنَاءُ فِي الْمَرْحَلَةِ الْجَامِعِيَّةِ وَتَخَرَّجُوْا فِيْهَا. بَلْ
وَأَكْثَرُ اْلإِنْسَانِ تَحَمُّلاً لِمَشَقَّاتِ الْأَوْلَادِ هُوَ الْأُمَّهَاتُ،
حَيْثُ تَحَمَّلْنَ الْمَشَاقَّ مُنْذُ بِدَايَةِ الْحَمْلِ. ثُمَّ تُوَاجِهْنَ الصُّعُوْبَاتِ
الْأُخْرَى أَثْنَاءَ الْوَضْعِ وَالرَّضَاعِ وَالتَّرْبِيَةِ وَفِيْ جَوَانِبَ
أُخْرَى يَتَفَرَّدْنَ بِهَا عَنِ اْلآبَاء.
قَالَ اللهُ تَعَالىَ :
وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً، حَمَلَتْهُ أُمُّهُ
كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً، وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً
سُوْرَةُ الأحقاف - اَلآيَةُ الْخَامِسَةَ عَشَرَ
هَذَا الْبَيَانُ الْإِلَهِيْ، يُبَيِّنُ لَنَا أَنَّ الْأُمَّهَاتِ تَحَمَّلْنَ
مَشَقَّةً عَلىَ مَشَقَّةٍ أَثْنَاَء اْلَحمْلِ. فَهُنَّ لَا يَزَلْنَ يُلَاقِيْنَ
الْمَشَاقَّ، مِنْ حِيْنِ يَكُوْنُ نُطْفَةً، مِنَ اْلوَحْمِ، وَالْمَرَضِ، وَالضَّعْفِ،
وَالثِّقَلِ، وَتَغَيُّرِ الْحَالِ، ثُمَّ وَجْعِ الْوِلاَدَةِ. ذَلِكَ اْلوَجْعُ
الشَّدِيْدُ، يُشْرِفُ بِالْأُمِّ عَلَى الْمَوْتِ. ثُمَّ بَعْدَ اْلإِنْجَابِ
وَالْوِلَادَةِ، قُمْنَ بِحَضَانَةِ الْأَوْلَادِ وَكَفَالَتِهِمْ وَرَضَاعِهِمْ، وَفَرَغْنَ
أَنْفُسَهُنَّ لَيْلَهَا وَنَهَارَهَا مِنْ أَجْلِهِمْ. وَالْمُدَّةُ لَيْسَتْ يَسِيْرَةً،
- يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مُدَّةٌ طَوِيْلَةٌ تَسْتَغْرِقُ
ثَلاَثُونَ شَهْرًا أَوْ أَكْثَرَ!
سَادَتِيْ وَآنِسَاتِي الْمُحْتَرَمُوْنَ،
لِذَلِكَ، رَفَعَ اللهُ مَنْزِلَةَ الْوَالِدَيْنِ أَمَامَ اْلأَبْنَاءِ، وَوَصَّاهُمْ
وَعَهِدَ إِلَيْهِمْ أَنْ يُحْسِنُوْا إِلَى وَالِدِيْهِمْ بِاْلقَوْلِ الَّلطِيْفِ،
وَالْكَلاَمِ الَّليِّنِ، وَبَذْل ِالْمَالِ وَالنَّفَقَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ وُجُوْهِ
الْإِحْسَانِ. بَلْ أَكَّدَ الْمُصْطَفَى صلى الله عليه وسلم الْمَنْزِلَةَ الْعَالِيَةَ
لِلْأُمَّهَاتِ وَفَضْلَ بِرِّهِنَّ فِيْ أَحَادِيْثَ مُتَعَدِّدَةٍ. وَمِنْ ذَلِكَ:
مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيْحَيْنِ عَنْ أَبِيْ هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنه قَالَ: جَاءَ
رَجُلٌ إِلىَ رَسُوْلِ الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
يَا رَسُوْلَ اللهِ! مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِيْ؟ قاَلَ:
"أُمُّـكَ"، قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أُمُّكَ"، قَالَ: ثُمَّ
مَنْ؟ قَالَ "أُمُّـكَ"، قَالَ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: "أَبُوْكَ".
وَكَذَلِكَ مَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ
بْنِ جَاهِمَةِ السُّلَمِيْ، أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ الرَّسُوْلَ صلى الله عليه وسلم
فِي الْجِهَادِ مَعَهُ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَرْجِعَ وَيَبَرَّ أُمَّهُ، قَائِلاً : "إِلْزَمْ
رِجْلَهَا ... فَثَمَّ الجَنَّةُ".
إِخْوَانَنَا وَأَحْبَابَنَا الْأَكَارِمُ،
خُلَاصَةُ الْقَوْلِ أَنَّ التَّوَاضُعَ لِلْأُمَّهَاتِ، وَإِطَاعَتَهُنَّ
فِيْ خِدْمَتِهِنَّ، وَالْإِحْسَانَ إِلَيْهِنَّ بِكُلِّ وُجُوْهِهِ سَبَبٌ لِدُخُوْلِ
اْلجَنَّةِ. لَكِنْ مَعَ ذَلِكَ، نَبَّهَنَا رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّ
وُجُوْبَ طَاعَةِ الْوَالِدَيْنَ مُشْرُوْطٌ بِعَدَمِ مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ،
وَأَكَّدَ ذَلِكَ فِيْ كِتَابِهِ الْعَزِيْزِ :
وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ،
فَلَا تُطِعْهُمَا، وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا
وَفِيْ هَذَا عَلَّمَنَا الرَّسُوْلُ صلى الله عليه وسلم فِيْ حَدِيْثٍ
رَوَاهُ أَحْمَدُ:
لا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ
لِأَنَّ اْلإِنْسَانَ مَهْمَا عَظُمَ قَدْرُهُ وَعَلاَ شَأْنُهُ، فَإِنَّهُ
قَدْ يُصِيْبُ وَقَدْ يُخْطِئُ. فَيَنْبَغِيْ طَاعَتُهُمْ وَبِرُّهُمْ فِيْمَا
أَبَاحَهُ اللهُ عَزَّ وَجَل.
وبـِهـَذاَ
الْقَدْرِ أَكْتَفِيْ. وَعَلىَ الْأَخْطَاءِ وَسَبْقِ اللِّسَانِ مِنِّي،
أَرْجُوْكُمْ أَنْ تُسَامِحُوْنِيْ. لِأَنَّ الْكَمَالَ وَالْخَيْرَ التَّامَ، لِلّهِ
جَلَّ وَعَلاَ.
وَأَخْتِمُ كَلِمَاتِيْ بِهَذِهِ
الْأَبْيَاتِ الشِّعْرِيَّةِ :
قِمَّةُ الوُجْدَانِ بِرُّ الْوَالِدَينْ فَرْضُ
عَيْنٍ مِنْ إلَهِ العَالمِينْ
ذِكْرُهُ يُتْلَى بقُرآنٍ كَريمْ جَاءَ
باِلْإِيْحَاءِ مِنْ وَحْيِ الأمِينْ
اصْنَعِ الخَيراتِ وارْحَمْ ضَعْفَهُمْ وَاسْعَ في إرْضَائِهِمْ في كُلِّ حينْ
اذْكُرِ الإجْهَادَ في حَمْلٍ أليمْ
مَرَّ كُرْهاً في عَذَابٍ بِالْأَنِينْ
وَبِاللهِ الْهِدَايَةُ وَالتَّوْفِيْق، والسلام عليكم ورحمة الله وبركـاته
.